إنه لمن المؤسف أن ندرك في مرحلة متأخرة من حياتنا، أن مقدار التعب والألم الذي نلناه طوال ردح من الزمن، كان بإمكاننا استبداله بمقدار مماثل من السعادة والهناء، لو أننا نظرنا إلى خياراتنا نظرة موضوعية ومن زاوية مختلفة، تسمى: زاوية العقل والحقيقة، لا زاوية الوهم والأهواء.
كنت قد شعرت بالحاجة إلى النظر في التحليلات والنظريات المتعلقة بأنماط العقول البشرية، بوصفها إحدى الطرق لمعرفة الكثير عن تطوير الذات وتحسين آليات التفكير.ولأنني مؤمنة بأن كل الأحداث والقرارات التي نمر بها قدر مكتوب، يحتاج أسبابا ليصير نافذا علينا، فقد عنيت بالبحث عما يجعل هذه الأسباب تختلف من شخص لآخر، فكانت الإجابة حسب رأيي: إن نوع العقل (التفكير) الذي نتميز به، هو المسؤول عن آرائنا وتقييمنا للأمور حولنا، وفوق ذلك كله فهمنا لمختلف القضايا التي تعترض سبيلنا. كما أن اختلاف هذا (النمط العقلي) بين الناس، والذي يظهر كـ(البصمة) المميزة بين شخص وآخر، له أسبابه ودواعيه العلمية، والتي يمكن تتبعها بدراسة عهد الطفولة لأحدهم، وتلك البيئة التي كانت تحيط به، ومستوى التربية الأسرية التي تلقاها، كذلك نوع الثقافة التي تمتع بها في مراحل حياته الأولى...وغير ذلك.
غير أننا في مثل هذا النوع من الدراسات الإنسانية التي تفسر أفعال البشر بالنظر إلى أنماط تفكيرهم، تلزمنا الضرورة العلمية إلى البحث في علم الاجتماع والوراثة وعلم النفس أيضا وغيرها من العلوم، حتى نخرج منها بنتائج يمكن القول عنها: إنها تقارب الصحة. لهذا سأكتفي بذكر ناحية واحدة من هذا المبحث العلمي- على الأقل- يمكنني البدء بها للحديث عن هذا التنوع العقلي.
هناك عدد من الإشارات التي تحيلنا إلى التفكر بهذه المسألة عند قراءتنا لكتاب "مشكلة الأفكار" للفيلسوف مالك بن نبي، فالإنسان -حسب رأيه- يتدرج في ثلاثة مستويات من العوالم حوله، يتحدد من خلالها مدى وعيه بمحيطه وواقعه، وهي: الأشياء، الأشخاص، الأفكار.وبناء على ذلك فإن المستوى الإدراكي الأعلى يتمثل في إدراك الأفكار، إذ إن صاحب مثل هذا النوع من العقول قادرعلى تفسير الظواهر حوله على اختلاف أنواعها، بوصفها أفكارا: عامة وخاصة، لها صلة منطقية بما قبلها وبعدها، كما أن لها أسبابا ومسببات. وبمثل هذا النوع من التفكير، لا أشك بأن الأحكام الناتجة عنه بشأن أي أمر، ستكون قريبة جدا من الصواب، إن لم تكن صائبة.
ويمكننا على أساس مشابه لما تقدم ذكره، رصد عدد من الأنواع العقلية حولنا، فهناك (العقل المادي) الذي لا يأبه للمعاني السامية في الحياة ومدى أهميتها،بمثل ما يعنيه ذلك الطائل المادي من ورائها، لذلك لا نرى أهل هذه العقول ممن يعتمدون المبادئ معيارا لأفعالهم بقدر ما تقتضيه مصالحهم منها. كما يمكننا تشخيص أنواع أخرى من العقول في محيطنا الاجتماعي، والتي قد تتباين وتختلف باختلاف حياة أصحابها، يهمنا منها ذلك (العقل الحكيم): الذي يتميز بقدرته على وضع قضاياه ضمن ميزانها الحقيقي، ويتمتع بقدرته على استكشاف حقائق الأشياء بالنظر إليها من نواح عدة، كما يتصف بالمرونة والتكيف مع الأفكار الجديدة التي يختبرها حوله، ويوازن بين أحكامه في تقدير الأمور.
فلنسجل أكثر الحوادث أو أصعب القرارات التي مرت بنا في حياتنا، ولنتوقف عندها قليلا لتساعدنا في فهم نوع العقل الذي يرافقنا. قد يساعدنا ذلك بالقليل من التفكير والتأمل في تعديل بعض الأمور، وإعادة تصويب (العقل) التي نملك في الاتجاه المطلوب، وصولا إلى القدرة على اتخاذ قرارات مبنية على تقييم أمثل لما حولنا من قضايا. إنه لمن المؤسف أن ندرك في مرحلة متأخرة من حياتنا، أن مقدار التعب والألم الذي نلناه طوال ردح من الزمن، كان بإمكاننا استبداله بمقدار مماثل من السعادة والهناء، لو أننا نظرنا إلى خياراتنا نظرة موضوعيةومن زاوية مختلفة، تسمى: زاوية العقل والحقيقة، لا زاوية الوهم والأهواء.